• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الوحدة.. كابوس للبعض ونعيم للبعض الآخر

الوحدة.. كابوس للبعض ونعيم للبعض الآخر
◄بعض الناس يفضلون أن يعيشوا لوحدهم، وأن يبتعدوا عن الحياة الاجتماعية. يحبون قضاء معظم الوقت مع أنفسهم ولا أحد آخر. إذا كانت الوحدة تشكل كابوساً بالنسبة إلى آخرين، إلا أنها تُعتبر نعيماً بالنسبة إلى البعض. فلماذا؟ "من منا لا يحسد الأشخاص الذين يعرفون كيف يقضون وقتاً طويلاً لوحدهم ولا يعتمدون إلا على أنفسهم؟". هذا ما يقوله البروفيسور مارسيل روفو، وهو طبيب نفس متخصص، لافتاً إلى أنّه "في هذا المجتمع المهووس بالتواصل بين الناس، أصبح الأشخاص الانعزاليون يثيرون الإعجاب لدى غيرهم بسبب قدرتهم على الاستقلال بذواتهم والاعتماد على أنفسهم. فاستقلاليتهم هذه تكشف قوة كبيرة في الشخصية، شريطة أن تقترن بين الفينة والأخرى ببعض الأنشطة الاجتماعية. أما في الحالة المعاكسة، فإن انغلاقهم على أنفسهم يمكن أن يُعد نوعاً من الفوبيا الاجتماعية أو الخوف من الحياة الاجتماعية".   شعور بالاكتفاء: ميادة (35 سنة، عازبة وتعمل مترجمة) تقضي معظم وقتها وحيدة، وهذا خيار تقول إنها "راضية كثيراً عنه وفخورة به". وتضيف: "هذا دليل على أنني لست في حاجة إلى أحد". فهل هي عقدة تكبر؟ على كل حال، هناك نوع من الاكتفاء ينبع من طريقة التربية التي تلقاها الإنسان في الطفولة، فإذا كان الوالدان يقولان للطفل إنّه الأذكى والأقوى.. فإنّ هذا الطفل يقول لنفسه: لماذا إذن اتجه نحو الآخرين؟ ما الذي سيضيفونه إلي؟ وعندما لا تزرع التربية في الطفل معنى المشاركة ومعنى اكتشاف الآخر، فإنّ الطفل ينمي في داخله نوعاً من الأنانية التي يمكن أن تظهر من خلال الانعزال عن الآخرين. بل إنّ الأمر على المدى الطويل يمكن أن يتطور إلى شكل مرضي، حيث يتجه إلى الخوف من التقاء الآخرين، لأنّه يعتقد أن أي لقاء قد يكشفه ويُسقط عنه القناع فيبدو تافهاً ومنعزلاً.   القلق الاجتماعي: ومن وجهة نظر الطبيب والمعالج النفسي فريديريك فانجي فإنّه "لا يمكن لأحد أن يحقق الاكتفاء بذاته وحدها". ويضيف: "إن محبي الوحدة لا يبحثون سوى عن حجج عقلانية، وذلك رفضاً منهم لأن يعترفوا بالسبب الحقيقي وراء انعزالهم، ألا وهو الخوف من الآخرين". "هذا القلق الاجتماعي يمكن أن يكون وراثياً"، كما يقول فانجي الذي انكب على تحليل دراسات علمية أجريت في الولايات المتحدة الأميركية على أطفال اجتماعيين. أو أن يكون تربوياً، كما تقول نجاة التي تبلغ من العمر 42 عاماً: "في عائلتي، لم نكن نستقبل أبداً اي ضيوف في البيت. كان والداي منطويين على نفسيهما وعلى أسرتهما". وهكذا، يتكون لدى الإنسان نوع من الشك الزائد تجاه الآخرين. يقول فانجي: "عندما يقول لك والداك، بل ويبينان لك، أنّه لا يجب أن نثق بأحد، فإنك لابدّ أن تكبر لتصبح شخصاً يحب الوحدة وينعزل عن الآخرين".   ذكريات صادمة: هناك أسباب كثيرة يمكن أن تدفع المرء إلى تفضيل قضاء كل الوقت مع نفسه على قضائه في صحبة الآخرين. مثلاً، يمكن أن يكون هذا التصرف ناتجاً عن ذكرى سيئة لصدمة تلقاها المرء في مرحلة طفولته. وهنا نستحضر تجربة مريم التي تبلغ من العمر الآن 33 سنة، والتي كانت مراهقة خجولة ومتحفظة. لا تنسى مريم أبداً التجربة التي تعرضت لها مراراً وتكراراً، خلال سنة دراسية كاملة مع أحد أساتذتها والذي كان يجبرها على أن تقوم إلى السبورة وتجيب عن بعض الأسئلة، فيسخر من أجوبتها ويسخر منها جميع زملائها. اليوم، أصبحت مريم تعمل في الزراعة في القرية، حيث تقول إنها سعيدة جدّاً بحياتها الحالية، حياة الناسك. وهنا، يوضح لنا الأخصائي النفسي فريديريك فانجي قائلاً: "عندما تكون تجارب المواجهة الأولى مع الآخرين مؤلمة وصادمة، يتخللها الفشل أو الصدمة، فإنها تكون سبباً كافياً لكي يتحول الطفل عندما يكبر إلى إنسان يحب حياة الوحدة والابتعاد عن الآخرين".   الخوف من الانفصال: هناك نوع من هؤلاء الأشخاص الذين يحبون الابتعاد عن الناس. أما من يعي تماماً أي نوع من الشخصيات هو، فيعرف جيِّداً أنّه تابع عاطفياً للآخرين. يقول فانجي: "إن تجنب خلق علاقات مع الآخرين هو طريقة يستعملها الشخص الانعزالي لكي يتجنب خطر الوقوع في حالة تبعية عاطفية للآخرين". ويضيف: "إن ما يقلقه ويخيفه هو التفكير في إمكان فقدان الآخر، الذي يمكن أن يرتبط به عاطفياً إن أقام معه علاقات اجتماعية. لهذا، فإنّ الشخص الانعزالي يفضل أن يبقى وحيداً على أن يعيش من جديد ألم الانفصال عن شخص عزيز كما عاشه في السابق مثلاً، من خلال الانفصال عن الأُم، وفاة شخص عزيز، انفصال عن امرأة يحبها".   ما العمل؟ اقترب من الآخرين: إن كنت من هؤلاء الأشخاص الذين يفضلون حياة الوحدة والابتعاد عن الآخرين، فاعلم أنّه كلما هربت من الطلعات وتجنبت التقاء الناس، زاد لديك الخوف من المناسبات الاجتماعية ومن لقاء الناس والجلوس معهم، وزاد لديك الانطواء. توقف عن أن تكون سلبياً، وخذ المبادرة إلى الدخول في علاقات اجتماعية مع الآخرين. كن جريئاً وابدأ في التدرب على الأمر أوّلاً مع الأشخاص الذين يستحقون ثقتك. تقرب منهم، اتصل بالهاتف لتسأل عن أحوالهم، اقترح مواعيد للخروج، قم بدعوتهم إلى بيتك. استعمل الوسائل التي يستعملونها هم أيضاً لكي يتقربوا منك، ولا تتراجع. توجه نحو العالم الخارجي: مهما يكن الدافع أو السبب وراء خوفك من الاختلاط بالآخرين، فإنّه يعطيك الإحساس بأنك المستهدف بكل الأحكام والنعوت التي يطلقها الآخرون عندما تكون جزءاً من جماعة من الناس. ولكن، لكي تتخلص من هذه المخاوف، من المهم جدّاً أن تتعلم كيف تتخلّى عن تركيزك على نفسك فقط. يجب عليك أن تُبدي اهتماماً بالناس وبالآخرين. بصيغة أخرى، كن منفتحاً على الآخرين واطرح عليهم الأسئلة، ولا تركز كل اهتمامك على نفسك فقط. للمحيطين بالشخص الانعزالي: لا تصدقوا المظاهر، قد يقول لكم الشخص الانعزالي إنّه يجب الوحدة لا تصدقوه. على الرغم من ذلك، عليكم أن تقتربوا منه، وجهوا إليه الدعوة، خذوه معكم في طلعات ونزهات. حدثوه عن مخاوفكم الشخصية وعن تجاربكم الاجتماعية. لأن هذا سيمكنه من أن ينظر إلى الأمر نظرة نسبية، وأن يعرف أنّه ليس وحده من يعاني هذه المخاوف. عبروا له عن صداقتكم وثقتكم به بالشكل الذي يشجعه على التخلي عن انعزاله.►

ارسال التعليق

Top